تدبر القرآن الكريم ومعانيه وأحكامه :
- ينبغي عند قراءة القرآن أن يتدبّر القارئ ويتأمل في معاني القرآن وأحكامه،
لأن هذا هو المقصود الأعظم والمطلوب الأهم،
وبه تنشرح الصدور وتستنير القلوب،
قال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته } [سورة ص: 29].
- وصفة ذلك: أن يشغل قلبه بالتفكر في معنى ما يلفظ به،
فيعرف معنى كل آية، ويتأمل الأوامر والنواهي، فإن كان مما قصر عنه فيما مضى اعتذر واستغفر،
وإذا مرّ بآية رحمة استبشر وسأل،
أو عذاب أشفق وتعوّذ،
أو تنزيه نزّه وعظّم، أو دعاء تضرّع وطلب.
- قال حذيفة رضي الله عنه: "صليت مع النبي صلى الله
عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقرأها … إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبّح،
وإذا مرّ بسؤال سأل، وإذا مرّ بتعوِّذ تعوّذ " رواه البخاري.
قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} [النساء: 28]،
وقال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].
وتدبر القرآن هو كما يقول الإمام الخازن رحمه الله تعالى: (أصل
التدبر في عواقب الأمور والتفكر في أدبارها ثم استعمل في كل تفكر وتأمل،
ويقال تدبرت الشيء أي نظرت في عاقبته ومعنى تدبر القرآن تأمل معانيه وتفكر
في حكمه وتبصر ما فيه من الآيات)(12).
ولتدبر كتاب الله والتأمل فيه طرق وأساليب توصل إلى المقصود منه وهو فهم
كتاب الله فهما صحيحا للعمل به وفق هذا الفهم، ومن تلك الطرق والأساليب:
أولا: تأمل ما فيه من دلائل وحدانية الله تعالى.
إن أعظم مقاصد التنزيل وأهمها على الإطلاق دعوة الناس إلى الإيمان بالله توحيده، والكفر بجميع ما سواه من الآلهة الباطلة،
ولذلك لا تكاد تخلوا سورة من سور القرآن من الدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك والتنديد.
وقد صرف الله في ذلك من الآيات ونوع من البراهين والأدلة ما لا يدع لمشرك
أو لكافر ملحد شبهة يتمسك بها في إثبات كفره وإلحاده، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55].
في تقرير توحيد الربوبية نجد قوله تعالى: {خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ
رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ
وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ
زَوْجٍ كَرِيمٍ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ
مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [لقمان: 10، 11]، وقوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35]، وغير ذلك من الآيات.
وفي توحيد الألوهية نجد قوله تعالى: {أَمَّنْ
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء
فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن
تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ
(60) أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً
وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ
مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّن يُجِيبُ
الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء
الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّن
يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ
بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى
اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ
يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ
اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 60-64]. وغيرها من الآيات.
وفي توحيد الأسماء والصفات نجد قوله تعالى: {هُوَ
اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا
هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ
الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا
يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ
الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 22-24]. ووضع منهجا واضحا
لفهم معاني الأسماء والصفات والإيمان بها يتضمن إثباتها ووصف الله بها كما
يليق به سبحانه وتعالى، ونفي ما يتوهمه الملحدون من الشبه والمثلية، وذلك
في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11].
ثانيا: تأمل ما فيه من الأحكام وأسرار التشريع.
ومن مقاصد التنزيل أيضا بيان ما يتعلق بأفعال المكلفين من الأحكام المطلوب
فعلها أو الكف عنها، أو المخير فيها بين الأمرين، (الأحكام التكليفية)،
وآثار وصفات تلك الأفعال وجودا أو عدما (الأحكام الوضعية)، فقد ورد في
القرآن الكريم بيان كل ذلك، بل ومقرونا في أحيان كثيرة بالإشارة إلى
أسرارها وغاياتها ومقاصدها.
تأمل في ما ورد في القرآن من النهي عن أكل بعض المحرمات، كما في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ
لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ
وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا
ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ
بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ...} [المائدة: 3].
وتدبر ما نزل في النهي عن شرب الخمر ولاحظ حكمة الشارع في التدرج في التشريع، حيث نزل فيه أولا قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ
عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ
لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا
يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ
لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 219]، ثم نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} [النساء: 34]، وأخيرا نزل قوله تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ
فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].
وهكذا نجد القرآن الكريم في غاية الدقة ومنتهى الحكمة في ما يحرم أو يبيح،
وإنما اقتصرنا في التمثيل على المحرمات لكونه أقل بكثير مما أبيح.
ثالثاً: تأمل ما فيه من دعوة إلى مكارم الأخلاق.
كاد أن يكون تهذيب الأخلاق وتزكية النفوس محور مقاصد الرسالة المحمدية، وخلاصة مضمونها، قال تعالى: {هُوَ
الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ
آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن
كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة: 2]، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق)(13).
ولذلك نجد في القرآن الدعوة إلى التخلي عن الأخلاق الذميمة والتحلي بالأخلاق الحسنة، ففي
سورة الحجرات مثلا نجد جملة من الآداب الاجتماعية والأخلاق الإسلامية التي
يدعوا إليها الإسلام، وعلى رأسها: الأدب مع الله ورسوله، ثم الأمر بالتثبت
في الأخبار، ثم الأمر بالإصلاح بين الناس، ثم النهي عن السخرية، ثم النهي
عن التنابذ بالألقاب، ثم النهي عن سوء الظن، ثم النهي عن التجسس، ثم النهي
عن الغيبة.
رابعاً: تأمل ما فيه من وجوه الإعجاز المتنوعة.
فالقرآن الكريم هو المعجزة الخالدة التي تظل إلى يوم القيامة شاهدة على صدق
نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم مرسل إلى
الناس كافة، ولإعجاز القرآن أنواع، فمنه الإعجاز التشريعي الذي يظهر في
التأمل فيما جاء به القرآن من شرائع عادلة شاملة لتنظيم الحياة كل الحياة،
وإسعاد البشر كل البشر، كما قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل: 76]، والإعجاز البياني الذي يظهر في التأمل في أساليب القرآن الفصيحة وتعابيره البليغة كما قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} [الكهف: 1]، وكما قال سبحانه: {قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر: 28]، وكذلك الإعجاز العلمي الذي يظهر في ما جاء به القرآن من حقائق علمية في مجالات العلم المختلفة.
والتأمل في كل هذه الأمور والتفكر فيها يقوي الإيمان في القلوب،
ويهدي إلى العمل بالقرآن وتطبيق تعاليمه في كل ناحية من نواحي الحياة المختلفة.
جعلنا الله من من يقراء القرآن فيحسن تدبره