بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمدلله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده..
أما بعد:
فمن المظاهر السيئة التي يجب إنكارها، ما نراه في بعض المساجد
وبخاصة في صلاة التراويح من ارتفاع الأصوات بالبكاء والصراخ
والتنحيب سواء من بعض الأئمة هداهم الله أو من كثير من المصلين وهذا
ليس من منهج النبي صلى الله عليه وسلم وليس من هديه هدي صحابته
وسلف هذه الأمة في الاستماع إلى القرآن
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن مسعود: «اقرأ عليّ القرآن»
قلت: يا رسول الله! أقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟
قال: «إني أحب أن أسمعه من غيري».
قال:
فقرأت عليه سورة النساء حتى جئت إلى هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا
مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا }
[النساء: 41]
قال: «حسبك الآن»
قال ابن مسعود فالتفت فإذا عيناه تذرفان. متفق عليه
وهذا يدل على أن بكاءه صلى الله عليه وسلم عند استماع القرآن كان بدون صوت
لأن ابن مسعود رضي الله عنه لم يعلم به حتى التفت إليه ورأى عينيه تذرفان.
وعن
عبدالله بن الشخير رضي الله عنه قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو
يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء».رواه أبو داود والنسائي وصححه
الألباني.
والجوف هو الصدر وما كان داخله، وهذا أيضاً يدل على أنه
لم يكن بصوت مرتفع، بل إن البكاء كان ينبع من صدره، حتى أن لجوفه صوتاً
كصوت الإناء الذي يغلي بالماء.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله:
"وأما بكاؤه عليه الصلاة والسلام فكان من جنس ضحكه، لم يكن بشهيق ورفع صوت،
كما لم يكن ضحكة بقهقهة، ولكن كانت تدمع عيناه حتى تهملا ويسمع لصدره
أزيز.
فأين هذا مما يفعله بعض الأئمة والمصلين هداهم الله من الصراخ والصياح والتشويش على المصلين؟!
أما يخشى هؤلاء أن يكون هذا الفعل تلبسياً من الشطيان عليهم ليوقعهم في الرياء وملاحظة الخلق؟!
وإذا
كان بكاؤهم هذا لله لا سمعة فيه ولا رياء وهو المظنون بهم فالواجب عليهم
إخفاؤه وكظمه ما استطاعو لأن إخفاء الطاعات إذا لم يكن في إظهارها مصلحة هو
ما كان عليه سلف هذه الأمة والأئمة المتبعون.
هذا فيما يتعلق
بالبكاء، أما الصراخ والصياح فهذا يجب تركه لأنه ليس من العبادة في شيء بل
هو من طريقة غلاة المتصوفة وغيرهم من أهل البدع.
وقد علمنا الله
تبارك وتعالى أدب الدعاء والمناجاة فقال: { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا
وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [الأعراف: 55]
فسمى الله سبحانه رفع الصوت بالدعاء لغير حاجة اعتداءً فكيف بالضجيج والصراخ؟
وقال تعالى: { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا} [الإسراء: 110]
ولما
سمع النبي صلى الله عليه وسلم قوماً يرفعون أصواتهم بالتكبير قال لهم:
«أيها الناس أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنكم تدعون
سميعاً بصيراً». متفق عليه.
فكيف بالذين يجهرون بالصراخ والعويل؟!
ومما
يزيد الأمر سوءاً أنهم يفعلون ذلك بواسطة مكبرات الصوت، فيسمع صراخهم أهل
الحي وربما الأحياء المجاورة ووصل الأمر إلى أنك تصلي في مسجد وتتابع ما
يجري في مسجد آخر بسب المبالغة في رفع الصوت.
هدي السلف في إخفاء الأعمال وستر الحال
1-في ترجمة منصور بن المعتمر قال زائدة: صام منصور أربعين سنة وقام ليلها، وكان يبكي فتقول له أمه: يا بني! قتلت قتيلاً؟
فيقول: أنا أعلم بما صنعت بنفسي
فإذا كان الصبح كحل عينيه، ودهن رأسه وبرق شفتيه وخرج إلى الناس!!
فانظر إلى إخلاص هذا العبد الصالح، وتأمل حالي وحالك، نسأل الله السلامة والعافية.
-وقال
محمد بن واسع: لقد أدركت رجالاً، كان الرجل منهم يكون رأسه مع رأس امرأته
على وسادة واحدة قد بل ما تحت خده من دموعه، لا تشعر به امرأته ولقد أدركت
رجالاً يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خده، لا يشعر به الذي بجانبه!!
وذكر الذهبي في السير عن محمد بن زيد – رضي الله عنه ورحمه- قال:
(كان أيوب السختياني في مجلس، فجاءته عبرة، فجعل يمتخط ويقول ما أشد الزكام).
يظهر-رحمه الله تعالى- أنه مزكوم لإخفاء البكاء.
وذكر الإمام أحمد في كتاب الزهد يوم قال: (إن كان الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردها، فإذا خشي أن تسبقه قام).
فأين نحن من هؤلاء؟!
فتاوي شرعية
احذروا الرياء
سئل سماحة الشيخ ابن باز عن ظاهرة ارتفاع الأصوات بالبكاء؟
فأجاب رحمه الله بقوله:
لقد
نصحت كثيراً من اتصل بي بالحذر من هذا الشيء، وأنه لا ينبغي لأن هذا يؤذي
الناس ويشق عليهم ويشوش على المصلين وعلى القارئ فالذي ينبغي للمؤمن أن
يحرص على أن لا يسمع صوته بالبكاء، وليحذر من الرياء فإن الشيطان قد يجره
إلى الرياء فينبغي له ألا يؤذي أحداً بصوته، ولا يشوش عليهم.
ومعلوم
أن بعض الناس ليس ذلك باختياره بل يغلب عليه بغير قصد، وهذا معفو عنه إذا
كان بغير اختياره وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا قرأ يكون
لصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء.
وجاء في قصة أبي بكر رضي الله عنه أنه كان إذا قرأ لا يسمع الناس من البكاء.
وجاء
عن عمر رضي الله عنه أنه كان يسمع نشيجه من وراء الصفوف ولكن هذا معناه أن
لا يتعمد رفع صوته بالبكاء وإنما شيء يغلب عليه من خشية الله عز وجل، فإذا
غلبه البكاء من غير قصد فلا حرج عليه في ذلك.
لا بأس إذا غلبه البكاء
سئل فضيلة الشيخ ابن عثميمن رحمه الله: ما حكم رفع الصوت بالبكاء في صلاة التراويح وغيرها، علماً بأنه قد يسبب تشويشاً للآخرين؟
فأجاب فضيلته بقوله:
"لا
شك أن البكاء من خشية الله عز وجل من صفات أهل الخير والصلاح، وكان النبي
صلى الله عليه وسلم يخشع في صلاته، ويكون لصدره أزيز كأزيز المرجل، وقال
الله تبارك وتعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ
خُشُوعًا } [الإسراء: 109]
فالبكاء عند قراءة القرآن وعند السجود
وعند الدعاء من صفات الصالحين، والإنسان يحمد عليه والأصوات التي تسمع
أحياناً من بعض الناس هي بغير اختيارهم فيما يظهر.
وقد قال العلماء رحمهم الله:
إن
الإنسان إذا بكى من خشية الله فإن صلاته لا تبطل، ولو بان من ذلك حرفان
فأكثر، لأن هذا أمر لا يمكن للإنسان أن يتحكم فيه، ولا يمكن أن نقول للناس
لا تخشعوا في الصلاة ولا تبكوا بل نقول: إن البكاء الذي يأتي بتأثر القلب
مما سمع أو مما استحضره إذا سجد، لأن الإنسان إذا سجد استحضر أنه أقرب ما
يكون إلى ربه عز وجل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون
العبد إلى ربه وهو ساجد». رواه مسلم.
والقلب إذا استحضره
هذا وهو ساجد لاشك أنه سيخشع ويحصل البكاء، ولا أستطيع أن أقول للناس
امتنعوا عن البكاء ولكن أقول: إن البكاء من خشية الله، والصوت الذي لا يمكن
للإنسان أن يتحكم فيه لا بأس به، بل كما تقدم البكاء من خشية الله من صفات
أهل الخير والصلاة.
البكاء مسنون ولكن..
سئل سماحة الشيخ ابن جبرين حفظه الله عن ظاهرة البكاء بصوت عالٍ وتجاوزها حد الاعتدال، وهل من توجيه للأئمة والمأمومين في ذلك؟
فأجاب حفظه الله ورعاه:
"البكاء
مسنون عند سماع القرآن وعند المواعظ والخطب ونحوها قال تعالى: {إِذَا
تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا }
[مريم: 58]
وروى أهل السنن عن عبدالله بن الشخير قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء".
فإذا
حصل البكاء في الصلاة لم تبطل إذا كان من خشية الله، وكذا عند سماع
القرآن، حيث إنه يغلب على الإنسان برفع الصوت عمداً كما لا يجوز المباهاة
بذلك، وقصد الشهرة بين الناس فإن ذلك كالرياء الذي يحبط الأعمال، كما ورد
في الحديث: «من سمع سمع الله به، ومن راءى راءى الله به». رواه مسلم.
وهكذا
لا يحسن البكاء تقليداً للإمام أو لبعض المأمومين، وإنما يمدح إذا كان من
آثار الخشوع والخوف من الله تعالى، أما الخشوع الكاذب فهو ترك الحركة وسكون
الأعضاء دون حضور القلب، ودون تدبر وتفهم للمعاني والحالات.
وعلى
الأئمة وكذا المأمومين محاولة الإخلاص وصفاء النية، وإخفاء الأعمال ليكون
ذلك أبعد عن الرياء الذي يحبطها فإن كثرة البكاء بدون دافع قوي وتكلف
التخشع ومحاولة تحسين الصوت وترقيقه ليكون مثيراً للبكاء ليعجب السامعين
والمأمومين ويكثر القاصدون له دون أن يكون عن إخلاص أو صدق هو ما يفسد
النية ويحبط الأعمال وقد يطلع على ذلك بعض من يسمعه والله علام الغيوب.
يبكي في الدعاء ولا يبكي عند سماع القرآن
سئل سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله عمن يبكي في الدعاء ولا يبكي عند سماع كلام الله تعالى؟
فأجاب رحمه الله:
هذا
ليس باختياره فقد تتحرك نفسه في الدعاء ولا تتحرك في بعض الآيات لكن ينبغي
له أن يعالج نفسه ويخشع في قراءته أعظم مما يخشع في دعائه لأن الخشوع في
القراءة أهم، وإذا خشع في القراءة وفي الدعاء كان ذلك طيباً لأن الخشوع في
الدعاء أيضاً من أسباب الإجابة لكن ينبغي أن تكون عنايته بالقراءة أكثر
لأنه كلام الله فيه الهدى والنور.
حكم التباكي
سئل رحمه الله عن حكم التباكي وعن صحة ما ورد في ذلك؟
فأجاب رحمه الله:
ورد في بعض الأحاديث «فإن لم تبكوا فتباكوا».
ولكن
لا أعلم صحته، وقد رواه أحمد ولكن لا أذكر الآن صحة الزيادة المذكورة إلا
أنه مشهور على ألسنة العلماء، لكن يحتاج إلى مزيد عناية لأني لا أذكر الآن
حال سنده.
والأظهر أنه لا يتكلف بل إذا حصل بكاء فليجاهد نفسه على
أن لا يزعج الناس، بل يكون بكاءً خفيفاً ليس فيه إزعاج لأحد حسب الطاقة
والإمكان.
الجواب الصحيح من أحكام صلاة الليل والتراويح
سؤال:
هناك ظاهرة انتشرت في الآونة الأخيرة وهي رفع الصوت بالبكاء لدرجة إزعاج
المصلين ومعلوم أن بكاء الرسول صلى الله عليه وسلم كان كأزيز المرجل فما هو
توجيهكم نحو ذلك؟
فأجاب الشيخ سلمان العودة بقوله:
سبق
الإشارة إلى مثل هذا والأولى أن الداعي لا يحرص على الصراخ والبكاء ويحرص
على أن يكظمه ويكتمه إن استطاع خاصة إذا كان مصلياً وخاصة إذا كان في حضرة
الناس، لأن هذا من أعظم مداخل الشيطان على الإنسان ولذلك قال الرسول صلى
الله عليه وسلم: «ورجلاً ذكر الله خالياً ففاضت عيناه». متفق عليه.
فبعض
الناس كما ذكر ابن الجوزي وغيره إذا كان في مجتمع من الناس يكون عنده شيء
من التكلف والتصنع والتعمل، فتجد أن عنده نفسية مستعدة للبكاء وهذا موجود
نسأل الله العافية.
اللهم ارزقنا عبرة رقراقة ترحمنا بها، ولا تحرمنا دمعةَ صادقة تسقط من خشيتك
فتسيل بمنِّك ميازيب المآقي على سطوح الوجنات، فتحيا بها قلوبنا، وتزكو نفوسنا
وتنشرح صدرونا، برحتمك يا أرحم الراحمين.