تأثير صناعة السيارات: كان لصناعة السيارات، منذ البداية، تأثير ضخم على اقتصاد الدول الغربية. وعندما ازداد إنتاج السيارات، ازداد الطلب باطّراد على الفولاذ والمطاط والزجاج وآلات التشغيل والسلع الأخرى. وفي الوقت ذاته، شرعت صناعة السيارات في تطوير أقسامها الذاتية الداعمة للمبيعات والخدمات والإصلاح.
صناعة السيارات في الولايات المتحدة. نمت صناعة السيارات في الولايات المتحدة بسرعة. وقد أثر عاملان تأثيرًا كبيرًا في هذا النمو السريع. الأول الانخفاض الحاد في سعر البنزين عقب اكتشاف حقول نفط ضخمة شرقي تكساس عام 1901م. فقد أدى البنزين الوافر والرخيص الثمن إلى تشغيل السيارات بكلفة منخفضة نسبيًا.
وكان العامل الثاني تطبيق تقنيات الإنتاج الكبير على صناعة السيارات. فقبل عام 1900م، استخدم منتجو السيارات حرفيين مهرة لتجميع كل سيارة على حدة. ولكن المنتجين الأمريكيين كانوا يستخدمون تقنيات الإنتاج الكبير منذ أواسط القرن التاسع عشر في صناعة منتجات كالأسلحة النارية وتجهيزات المزارع. لذا،كان من المحتم أن يطبقوا هذه العملية على صناعة السيارات. وما أن تَرَسَّخ استخدام الإنتاج الكبير حتى انخفضت أسعار السيارات الأمريكية إلى المستوى الذي مكّن أناساً كثيرين من شرائها. وفي أوائل القرن العشرين، كان بإمكان المشتري في الولايات المتحدة أن يختار من بين تشكيلة من السيارات التي يبلغ سعرها أقل من1,000 دولار أمريكي. وكان هذا يتباين بشكل حاد مع الطرز الأوروبية الأنيقة في ذلك الحين، التي كان معظمها مازال ينتج يدويًا وتباع بأكثر من 2,000 دولار.
ويَخُصُّ مؤرخون كثيرون طراز أولدزموبيل لعام 1901م بميزة أنه أول سيارة أنتجت على أساس الإنتاج بالجملة. وقد بنيت هذه السيارة، أكثر من أي سيارة قبلها، من أجزاء صنعها وكلاء خارجيون وشُحِنَت بعدئذ إلى مصنع التجميع. وتقدم الإنتاج الكبير خطوة مهمة في عام 1904م، عندما تولّى هنري م. ليلاند إدارة شركة كاديلاك للسيارات في الولايات المتحدة، وبدأ ببناء السيارات باستخدام أجزاء قابلة للتبادل. وقد أمكن استخدام الأجزاء القابلة للتبادل لتجميع أي سيارة من الطراز نفسه أو إصلاحها، إذ كانت معظم الأجزاء حينذاك تصنع لتلائم طرازًا معينًا واحدًا فقط.
ولكن الصناعي الأمريكي هنري فورد حسَّن الإنتاج الكبير للسيارات على نحو أكمل من أي إنسان آخر. ففي عام 1913م، أنشأ فورد خط إنتاج مستمر للسيارات في مصنعه، حيث كان يسحب هيكل السيارة بسلسلة عبر المصنع. ويقوم العمال على كل جانب بتجميع السيارة عن طريق إضافة الأجزاء التي كانت تُجْلَب إليهم بسيور ناقلة. وقد نتج عن هذه العملية انخفاض ضخم في زمن الإنتاج وتكاليفه.
رواد دترويت. أثناء تطور صناعة السيارات الأمريكية، سرعان ما أصبحت مدينة دترويت وضواحيها تعرف بعاصمة العالم للسيارات لأسباب عدة. ففي ذلك الحين، كانت دترويت تحتوي على كثير من المسابك وورش الآلات، وكانت مركزًا لصناعة أفران حديد الزهر وصناعة المحركات البحرية. كما كانت مدينة فلينت القريبة منها مركزًا رئيسيًا لإنتاج العربات والحافلات التي تجرها الخيول. وتقع دترويت أيضًا على نهر دترويت بحيث توفر منفذًا إلى موانئ البحيرات الكبرى. ولكن الميزة الرئيسية التي كانت تمتاز بها دترويت عن مراكز الإنتاج الأخرى هي وجود عدد كبير من رواد صناعة السيارات الناجحين.
رانسم إيلي أولدز. بدأ قبل سن العشرين، بالقيام بأعمال أولية مبكرة في تصنيع المحركات البخارية والكهربائية. وفي العشرينات من عمره، صنع سيارته الأولى وكانت سيارة بثلاث عجلات تعمل بالبخار. وشارك في تأسيس شركة أولدزموبيل للسيارت في دترويت عام 1899م. وفي عام 1901م، بدأت هذه الشركة بالإنتاج بالجملة للأولدزموبيل ذات المقدمة المنحنية، وهي سيارة بترول منخفضة التكلفة. وقد صنعت الأرضيات على شكل منحنٍ في المقدمة لتكون لوحًا واقيًا أنيقًا.
هنري فورد. عمل في شبابه ميكانيكيًا ومهندسًا في دترويت. وفي عام 1896م، صنع فورد سيارته الناجحة الأولى التي كانت تعمل بالبترول. و في عام 1903م، أسس شركة فورد للسيارات التي كانت شركته الثالثة، فقد أخفقت شركته الأولى، كما أنه بكل بساطة ترك شركته الثانية. وأنتج فورد سيارته الشهيرة طراز T في عام 1908م. وكان سعرها 825 دولارًا أمريكيًا. وتمكن عن طريق الإنتاج الكبير الذي يتميز بتكاليف الإنتاج المنخفضة، من تخفيض سعرها مرة بعد مرة. وكان مفتاح نجاح فورد هوخط التجميع المستمر الذي أدى إلى زيادة الإنتاج إلى ثلاثة أضعافه عما قبل ليصل إلى أكثر من 240,000 سيارة طراز T سنويًا. فانخفض سعر السيارة إلى أدنى مستوى له على الإطلاق، إذ بلغ 290 دولارًا في عام 1924م. وقد فاقت مبيعات هذا الطراز جميع السيارات الأخرى لمدة 20 سنة تقريبًا.
وليم كرابو ديورانت أمريكي آخر أصبح مليونيرًا عن طريق تصنيع العربات. وسيطر عام 1904م على شركة بويك للسيارات التي أسسها ديفيد دنبار بو يك. وجعل ديورانت شركة بويك منتجًا رئيسيًا للسيارات عام 1908م. وفي نفس ذلك العام، أنشأ شركة جنرال موتورز بهدف إنتاج سيارات متنوعة الأحجام والأسعار. وفي غضون العامين التاليين، استولت الشركة التي سميت اختصارًا (G.M)، على شركات أخرى كثيرة لصناعة السيارات، ومنها كاديلاك وأولدزموبيل بالإضافة إلى عدة شركات مغذية. وفي عام 1910م، حلّ تشارلز ناش محل ديورانت في رئاسة شركة بويك. وأخيرًا أصبح والتر بيرسي كرايسلر، الذي عمل في شركة بويك، نائبًا لرئيس جنرال موتورز وأسس فيما بعد شركة كرايسلر، وهي شركة أمريكية رئيسية أخرى لصناعة السيارات. وفي عام 1911م، كّون ديورانت ولويس شيفروليه شركة شيفروليه للسيارات التي أحرزت سياراتها المنخفضة السعر نجاحًا مباشرًا. واستعاد ديورانت السيطرة على جنرال موتورز عام 1916م. أما ناش، الذي أصبح رئيسًا لشركة جنرال موتورز عام 1912م، فقد استقال وكون شركة ناش للسيارات.
الأخوان جون وهوراس دودج كانا ينتجان في الأصل الدراجات. وفي عام 1901م، افتتحا ورشة آلات ميكانيكية في دترويت، وسرعان ما قاما بتصنيع القطع لكل من أولدز وفورد. وجمع الأخوان دودج ثروة من عملهما وخصوصًا من مشترياتهما لأسهم فورد. وفي عام 1914م، بدأ إنتاج سياراتهما التي كانت من بين السيارات الأمريكية الأولى التي صنع جسمها كله من الصلب.وقد أحب المشترون سيارة الدودج الجديدة وسعرها إذ كان أعلى قليلاً من الطراز T.
التقدم التقني: حصل تقدم سريع في العلوم التقنية بعد نشوء صناعة السيارات، الأمر الذي ساعد على إنتاج سيارات أكثر أمانًا وأكثر راحة وأسهل تشغيلاً. ويعد مفتاح التشغيل الذاتي الكهربائي، الذي اخترعه تشارلز كترنج عام 1911م حلقة رئيسية في تطور صناعة السيارات. وقد ركَّبت شركة جنرال موتورز الأنواع الأولى منه في سيارات الكاديلاك لعام 1912م. وقد وضع مفتاح التشغيل الذاتي حدًا لتدوير المحرك يدويًا، إذ كان التدوير اليدوي صعبًا ومزعجًا وخطرًا أحيانًا.
الحرب العالمية الأولى (1914-1918م). أظهرت الحرب أهمية السيارات والمركبات الآلية الأخرى للأغراض العسكرية، وأثبتت أيضًا أهمية طرائق الإنتاج الكمي في صناعة السيارات.
في سبتمبر من عام 1914م، تقدمت الجيوش الألمانية نحو باريس، فاسْتُخدمت سيارات الأجرة في المدينة لنقل الجنود الفرنسيين نقلاً سريعاً إلى جبهة القتال. وقد ساعد "جيش سيارات الأجرة" على إيقاف تقدم الجيوش الألمانية في معركة المارن الأولى. فكانت هذه المعركة نقطة التحول الأولى في الحرب لأنها قضت على فرصة ألمانيا في إحراز نصر سريع. واستخدم الحلفاء الفوج الأول من الدبابات عام 1916م. وتم في هذا العام أيضًا إنقاذ فردان الفرنسية من استيلاء الجيش الألماني عليها بمساعدة جنود وإمدادات جديدة تم نقلها إلى جبهة القتال بالشاحنات.
وأنتجت شركات صناعة السيارات كميات ضخمة من المعدات العسكرية للحلفاء. فصنعوا آلاف الشاحنات والدبابات والكثير من السفن والإمدادات العسكرية الأخرى. وأسهمت شركات السيارات أيضًا في صناعة محركات الطائرات الحربية وتطويرها. وقد ساعد الدور المهم الذي قامت به صناعة السيارات في الحرب على ترسيخ السيارة بوصفها وسيلة نقل مألوفة.
__________________