اعترف أنه كانت لديّ فكرة مسطحة عن سلطنة عمان ولم يكن يغريني في شيء أن أغوص في تفاصيلها أو أتعرّف على مكنوناتها، ربما لبعد المسافة ومشقة السفر إليها وقساوة الطبيعة التي تميّزها، من حر شديد وصحراء موحشة ومناخ غاية في الصعوبة والقساوة..كان ذلك حافزا قويا لي لأزور هذا البلد الجميل بدعوة كريمة من وزير الإعلام بمناسبة العيد الوطني لسلطنة عمان الشقيقة، حضره خمسة وخمسون من رؤساء تحرير كبرى الصحف العربية في الوطن العربي ومختلف العواصم الأوربية والباكستان وإيران.
سلطنة عمان.. بين الأمس واليومهالني في السلطنة قبل التطور العمراني والحضاري، تلك السلاسل الجبلية السوداء العائمة فوق كثبان رملية لا نهاية لها، صخور مترابطة تحيلك على زمن البراكين النائمة في بلد استيقظت فيه براكين الحضارة الإنسانية التي نحتها العمانيون بأيديهم فوق تلك الصخور السوداء، فالمرافقون يروون لنا ما يشبه الأساطير عن جد واجتهاد وتضحية الإنسان العماني منذ العصور، فحتى سنوات الثمانينيات لم تكن السلطنة سوى سلسلة من البيوت القديمة والمتباعدة تحاصرها تلك الجبال الموحشة، ليس فيها سوى 3 مدارس وبضعة كتاتيب ووسائل نقل بدائية مثلها مثل باقي الدول العربية التي كانت لتوّها تنفض غبار الاستعمار وتحاول أن تلم شعثها وتجمع شتاتها بأيدي أبنائها.. أما اليوم فالسلطنة وبفضل ذلك التحدي الذي رفعه العمانيون بقيادة السلطان قابوس شعلة من الحضارة والنظافة والتطور، خاصة أن السلطنة هي ثاني اكبر بلدان الخليج العربي بعد السعودية من حيث المساحة والسكان..
صدقوا أو لا تصدقوا.. مسقط أنظف عاصمة في العالم!دائما مبهورون نحن بسحر العواصم الأوربية ومندهشون لتطورها ونظافتها، لكن الذي تعرفه العاصمة العمانية مسقط من تطور وحضارة وأناقة نافس بل تفوق على الكثير من عواصم العالم، التي بدأت تتطور بدايات القرن العشرين بينما نهضت مسقط من بين كثبان الرمال وخرجت من تضاريس الصخور فقط بداية التسعينيات، واكتمل بناؤها وجمالها بداية الألفية الجديدة، ويكفي أنها حصلت على اعتراف الأمم المتحدة والعالم بأنها العاصمة الأنظف في العالم خلال السنوات الأخيرة، لا تكاد تلحظ خدشا واحدا يعكر عليك نظرك، واكتشفت بالسؤال عن تلك النظافة أنها ليست جهدا محصورا على عمال النظافة بل تحولت إلى ثقافة متداولة بين فئات وقطاعات الشعب العماني، والتزم بها حتى الوافدون على السلطة من باقي بلدان العالم، فحتى الطرقات الفرعية منها والسريعة على قدر عال من النظافة والإتقان.. وقد لاحظت قلة عمال النظافة بالمقارنة معهم في بلادنا، فقال لي أحدهم مازحا إنه ليس هناك من يلوث وبالتالي ليس هناك من ينظف؟
وفي زخم إعجابي بنجاح أشقائنا العمانيين في تطوير وتنظيف بلادهم، تذكرت بؤس عاصمتنا الجزائر الغارقة في أطنان القمامة، وكيف يحاول مسؤولونا إقناعنا بالتعايش حتى مع الأوساخ، تخيّلت نفسي مارا بين أزقة بلكور، باب الوادي أو الحراش، وتذكرت بألم أننا أحيانا نعلم على البيوت والعناويين عندنا بأكوام الزبالة..، والمشكلة انه كلما ازداد عدد عمال النظافة ازدادت معه القمامة وليس من الغرابة أبدا وأنت تتحول في شوارعنا أن تنزل على رأسك أكياس القمامة، بل صارت تلك القمامات، للأسف الشديد، ملاذا للكثير من الفقراء وأحيانا عائلات بكاملها تقتات مما يفلت من أيدي عمال النظافة، وليس ثمة مجرد تفكير في الاستفادة من تجارب أشقائنا الذين تحدوا الطبيعة ونافسوا الغرب حتى في ابتكاراته ونظافة مدنه..
السلطان.. بيت الحكمة والعدالةما يرويه العمانيون حول السلطان قابوس أحيانا يعجز اللسان عن وصفه، خاصة ما يتعلق بحكمة الرجل في جمع شمل شعبه والحفاظ على استقرار البلاد وضمان إقلاعها العمراني والحضاري ورعاية التعايش المذهبي وبناء علاقات صداقة مع كل دول العالم، فالسلطنة تكاد تكون البلد الوحيد في العالم الذي ليست لديه مشاكل لا مع دول الجوار ولا مع أي دولة أخرى في العالم، وتلك واحدة من ثمار الحكمة التي يشهد بها العمانيون لسلطانهم ما تترجمه علاقة الحب والود التي وقفنا عليها بين الشعب العماني الشقيق والسلطان قابوس..
السلطان قابوس هو ذلك الأب الروحي لوحدة العمانيين ونمائهم وهو أيضا هيبة الدولة وسيفها المسلول في وجه المتجاوزين أو المخالفين للقوانين على قلتهم، فالرجل لا يتردّد في إنصاف المظلومين مهما كان حجم الظالم، ويروي لنا العمانيون بفخر كيف أن السلطان تدخل في إحدى المرات بنفسه ليهدم قصرا عملاقا بني على غير الأسس القانونية المتعارف عليها، والمفارقة أن القصر كان ملكا لأحد الوزراء المعروفين بالنفوذ والمال، ولقد خلفت تلك الحادثة ارتياحا شعبيا كبيرا ثبت تلك الثقة بين السلطان وشعبه، كيف لا وهم يرونه ينتصر للفقير ويفرض سلطة القانون حتى على كبار القوم.. عدت بذهني إلى عالمنا العربي وأنا أستمع إلى تلك القصص القادمة من الزمن الجميل، فلم أر سوى طوفانا من الفساد ينخر جسد الأمة ويحيل شعوبنا العربية والإسلامية على الفقر والنزاعات والانتحارات، وتراءت بين ناظري قوارب الموت التي تبتلع سنويا مئات الشباب الباحث عن الحياة..
ما شدّني أيضا في السلطان قابوس أنه رجل أفعال لا أقوال، فالسلطان لا يخطب إلا مرة كل سنة لبضع دقائق يحدد فيها معالم المستقبل بناء على الإنجازات المحققة، وهو بالضبط ما شهدناه وسمعناه منه في مدينة صلالة، سمعنا كلمات مقتضبات هادئة وهادفة وهادية، وأقوى ما شدني فيها قوله: "نحن لا نتدخل في شؤون غيرنا ولن نسمح لغيرنا بالتدخل في شؤوننا"، وانصرف بعدها السلطان إلى عمله تاركا أبناءه يكرمون ضيوفهم.. تذكرت بعدها أن جل رؤسائنا وملوكنا في العالم العربي يصدعون رؤوسنا في خطاباتهم بالساعات، لكنهم في النهاية لا يقولون ولا يفعلون شيئا..
يقول لنا بعض من كانوا مكلفين بمرافقتنا إن للسلطان عادة زادت شعبه حبّا له، فالرجل يحرص على زيارة القرى والمداشر دون مناسبة، وكثيرا ما يتوقف بسيارته عند أماكن عديدة ليست مبرمجة في زياراته، حتى انه في إحدى المرات استوقفته كتابات حائطية فنزل واستقصى وسأل عن نوع تلك المشاكل التي تدفع الشباب للجوء إلى الجدراء بدل اللجوء إلى المسؤولين؟.. وقد استفزّتني تلك المواقف فوجدت نفسي اندفع بفخر أحكي لمن كان معي من رؤساء تحرير قصص المرحوم مولود قاسم نايت بلقاسم، وكيف كان يصطحب معه دلو صباغة ليصحح به أخطاء اللغة العربية في لافتات الطرقات أينما حل وارتحل.
الاستثمار في الإنسان.. سر الإقلاعبالرغم أن السلطنة من البلدان المنتجة للنفط والغاز، إلا أن طبيعتها الصخرية جعلتها لا تجد نفس اليسر والسهولة في استخراجه، كما تفعل الجزائر وباقي دول الأوبك، فاختراق الصخر للوصول إلى هذه الخيرات يكلف العمانيين الكثير من الجهد والمال والوقت، حتى أن أحد الخبراء العمانيين قال لنا إن انخفاض أسعار النفط إلى أقل من 15 دولارا سيجعل العمانيين يتركونه تحت الصخر، لأن تكلفة استخراجه ستكون أكثر من المداخيل المتوقعه منه، لذلك وجدت السلطنة الشقيقة في ارتفاع أسعار النفط خلال السنوات الأخيرة إلى أكثر من 70 دولارا فرصة كبيرة في تطوير البلاد واستغلال الخيرات الباطنية لفائدة الإنسان العماني، بل أكثر من ذلك استغلال هذا الدخل في استحداث مداخيل أخرى، على نحو تطوير الإنتاج الوطني من زراعة وسياحة وصيد بما يوسع من مصادر الخزينة ويحررها من سلطة البترول الزائلة..
ولذلك تجد العمانيين يسابقون الزمن في بناء وطنهم وترسيخ أسس الحضارة وتقوية البنية التحتية والاستفادة من الخبرات الأجنبية مهما كانت، والاستثمار خاصة في الإنسان العماني من خلال التعليم والتكوين الفني عال المستوى، والعمل على تأهيل الشباب العماني للإمساك بكل دواليب التسيير خاصة التكنولوجي المعقد منه.
3 مذاهب.. في قلب واحد!ما نعرفه نحن الجزائريين عن سلطنة عمان لا يزيد عن كونها مركزا مهما للمسلمين من معتنقي المذهب الإباضي وهم مثال حيّ للتديّن والوطنية عندهم وعندنا في الجزائر، لكن الذي وجدته خلال زيارتي إلى السلطنة أنها أنموذج مذهل للتعايش المذهبي، فلا تكاد تحضر أو تسمع أيّ نقاش مذهبي يمكن أن يعكر على المسلمين تديّنهم ووقارهم وسكينتهم، رغم وجود المذهب الشيعي إلى جانب المذهب الشافعي إلى جانب طبعا المذهب الإباضي الذي تنتمي إليه العائلة الحاكمة، وبالفعل استطاع السلطان قابوس أن يشمل ويشيد أنموذج المسلم الواعي الذي يرتفع إلى نفائس الأمور وينشغل بما يهمه ويفيده في دينه ودنياه ولا ينزل أبدا إلى أساليب التفرقة التي غرسها فينا الصهاينة، حيث صار المسلم منّا يسأل أخاه المسلم عن مذهبه وعرقه قبل أي شيء آخر.. ورغم كوني من المهتمين بتاريخ الملل والنحل والأديان والمذاهب، إلا أن الخجل تلبّسني كلما أردت أن أسأل عمانيا عن مذهبه، لترفّعهم الشديد عن مثل هذه الأشياء التي تثير فضول الصحافيين والمؤرخين والباحثين، وهو الشعور الذي اجتاحني وأنا التقي فضيلة مفتي السلطة الذي سبق له أن زار الجزائر عدة مرات.. وقد تمنيت أن تنهل باقي بلداننا الغارقة أحيانا في الصراعات المذهبية والطائفية من هذه المدرسة حتى تنشغل شعوبنا بما يجمعها وليس ما يفرقها.
صلالة.. وإعجاز الفلكيينكنت أسمع مند سنوات عن مهرجان صلالة، وكيف أنه يستقطب ملايين السياح في عز الصيف، مستغربا كيف لبلد حار أن يكون فيه مثل ذلك الاخضرار الذي لا نجده حتى في المناطق معتدلة المناخ؟
كانت الرحلة من مسقط إلى صلالة مريحة رغم أن المسافة لا تقل عن ألف كيلومتر، قطعناها بطائرة عسكرية خاصة سخّرتها لنا وزارة الإعلام، حيث كان الوزير في توديعنا بمطار مسقط لنجده في استقبالنا في صلالة، وما ان وصلنا وجدنا الأرض خضراء كما لو اننا في أوربا رغم الحرارة الشديدة التي تجتاح المنطقة، وعلى طول أكثر من 70 كيلومترا إلى غاية الفندق اكتشفنا صلالة الخضراء الساحرة، وكان طبيعيا أن نسأل عن هذا اللغز المحيّر، حرارة شديدة وأرض خضراء في قلب الصحراء..
إنها إرادة الله التي حيّرت الفلكيين، فصلالة التي تعد أول مدينة عربية تطل عليها الشمس في أقصى الشرق من الوطن العربي، مثلها مثل باقي مدن الخليج صحراء حارة على مدار العام إلا ثلاثة أشهر منه هي أوت، سبتمبر وأكتوبر، هذه الأشهر تشهد خلالها صلالة تحولات مناخية غريبة تميّزها أمطار غزيرة تجعل من تلك الصحراء الموحشة جنة خضراء تستقطب العمانيين ومئات الآلاف من السياح الأجانب، وبمجرد انتهاء هذه الأشهر الثلاثة ـ سبحان الله ـ تعود الأرض إلى سابق عهدها تنتظر الأشهر القادمة من السنة القادمة، والجميل في القصة كلها أن العمانيين لا يفوتون تلك الأشهر، بل تلك الأيام الجميلة التي تتحول فيها صلالة الجميلة إلى عاصمة حقيقية ومنتزه كبير للعائلات، ويكفي كدليل على ذلك أننا تحولنا من الصالات المكيفة في مسقط إلى العشاء في الهواء الطلق الذي دعا إليه وزير الإعلام العماني على شرف رؤساء تحرير الصحف المدعوة، الذين لم يصدقوا أنهم في قلب صحراء الخليج تلك الصحراء التي استوقفها الخضار لأسابيع وابتلع الربيع صيفها لأيام..
دكاترة الجامعات يستنجدون بحراوبيةبحثت عن الجزائريين في سلطنة عمان، فوجدتهم جالية نوعية على قلتها، والأمر يتعلق بأقل من 300 جزائري منهم 22 دكتورا في الجامعات العمانية الحكومية والخاصة، وما يقارب 20 طيارا في الخطوط الجوية العمانية، بالإضافة إلى عشرات المهندسين في شركات البترول والطلبة والتجار. وللجزائريين هناك سمعة طيبة، فالعمانيون يشهدون لهم بحسن السيرة والسلوك وقبل ذلك بالكفاءة والاقتدار على كل المستويات، كما هو حال الدكتور مسعودي الحواس رئيس قسم العلوم الإنسانية بجامعة مسقط وهو من الإطارات المهاجرة، شغل لسنوات نائب عميد جامعة الجزائر مكلف بالدراسات العليا، يروي لنا تجربته في السلطنة التي احتضنته وفتحت أمامه كل الآفاق حتى ءنه اعتذر بلطف عن عمادة الجامعة في مسقط، ويعد الدكتور مسعودي اليوم من المراجع النادرة في عمان في كل ما يتعلق باللسانيات والعلوم الإنسانية، حيث تدعوه الهيئات والجامعات وفئات المجتمع المدني ليحاضر ويقدم تجربته في كل ما يتعلق بعلم اللغات واللسانيات.
المشكلة التي تؤرّق الكثير من أساتذة الجامعات في عمان هي اشتراط وزارة التعليم العالي إجبارية عودة الأساتدة المهاجرين إلى الجزائر خلال خمس سنوات من العمل خارجها، وإلا فسخت عقودهم وفقدوا مناصبهم في الجامعات الجزائرية، الأمر الذي يزعج الأساتدة ويجعلهم بين نارينا؛ إما التضحية بمسارهم المهني داخل الوطن أو التضحية بالفرص المهنية الكبيرة التي تتاح لهم خارج الوطن، وهنا وجد بعض الأساتذة في الشروق فرصة سانحة لتوجيه نداء إلى وزير التعليم العالي من أجل التدخل لتغيير القوانين ورفع هذا الحرج عن الأساتذة والدكاترة، الذين قضوا حياتهم في خدمة الجامعات الجزائرية، فهم يأملون فعلا في دخول الجزائر لكنهم يريدون قبل ذلك استكمال تجاربهم الرائدة التي يخضونها في بعض البلدان الخليجية ومنها عمان، هذه التجارب التي تنال إعجاب وإكبار العمانيين خاصة في مجال البحث العلمي.