|
اشتعلت النيران في النظام التونسي اشتعالها في الشارع فرحل بن علي
|
محمد المختار في السابع من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1987 أعلن الوزير الأول التونسي (ووزير الداخلية أيضا) يومئذ
زين العابدين بن علي توليه زمام السلطة والإطاحة بنظام الرئيس الحبيب بورقيبة الذي حكم تونس منذ فجر الاستقلال أواسط خمسينيات القرن الماضي.
بدا التغيير هادئا، وقيل لحظتها إن انقلاب بن علي -الذي حلا لمناصريه تسميته تغيير السابع من نوفمبر- إنما هو سرقة لما يمور به الشارع من رفض لسياسات العجوز المريض بورقيبة، الذي لم يعد له من العقل إلا ما يتمسك به بالسلطة.
ورحبت القوى التونسية التواقة للتغيير يومئذ -يساريين وإسلاميين- بالانقلاب الذي لم يطل التفكير في مراميه وأهدافه، وما يمكن أن يحققه، حتى كشر عن أنياب العداوة لليساريين والإسلاميين والعروبيين، مستغلا بعض القيادات اليسارية التي التحقت به على هوان –حسب تعبير بعضهم حينها- ليستخدمها في تصفية اليساريين والإسلاميين معا.
وبنى الرئيس بن علي ما دعي نموذج القبضة الحديدية المتدثرة بالنمو الاقتصادي المعلن، والتحديث الذي يأخذ من العلمانية الغربية في طبعتها الفرنسية نموذجا، مغاليا في رفض التدين وكبت الحركة الإسلامية، ورفض الشعارات العروبية واليسارية والوطنية الجادة.
وتكررت الانتخابات التي كانت المعارضة تعتبرها صورية وفولكلورية، لتكرس بن علي رئيسا لتونس على مدى أكثر من 23 سنة وبنسب نجاح عالية، كما تكرس الحزب الدستوري حاكما مسيطرا على البرلمان والبلديات، لا يقبل أي نمط من المشاركة حتى لو بدت مدجنة.
ولم يكن نظام بن علي ليتساهل مع أي معارضة حتى لو بدت علمانية مستأنسة بسيطة، فلاحق الصحفيين والحقوقيين والمحامين، وتعالت صيحات الحقوقيين في الداخل وفي الخارج ضد رجل وصفوه بالمضطهد لكافة فئات الشعب التونسية، وطنية وإسلامية ويسارية وليبرالية وحتى جهوية.
قبل شهر من الآن انطلقت شرارة التغيير في مدينة سيدي بوزيد الموصوفة لاحقا بالمهمشة، والتي اشتكت جماهيرها مما اعتبرته حيفا في توزيع الثروة، ومع ذلك فإن أي شعارات سياسية لم ترفع يومئذ، حتى بعد أن طبقت المظاهرات الجنوب والوسط والشمال الغربي، تلك المناطق الموصوفة بالمهمشة في سياسات بن على الاقتصادية.
لكن الأوراق اختلط فيها الاقتصادي بالسياسي، وتاقت أنفس الناس للتغيير فطالبوا برحيل بن علي، وتصدرت اللافتات خاصة في العاصمة تونس ومناطق الشمال الشرقي الموصوفة بالمحظوظة، ورفعت شعارات لخصتها إحدى اللافتات قائلة: "خبز وماء.. وبن علي لا".
وفي الأيام الأولى بدا بن علي ممسكا بزمام الأمور يصف المتظاهرين بالإرهابيين، ويعد بمنح 15 مليون دولار لتنمية تلك المناطق، تطورت لاحقا لخمسة مليارات دولار، وصعد القناصة أسطح المنازل، ولم تفلح سياسات الوعيد والتهديد، كما لم يخف الناس عدد القتلى المتصاعد (أكثر من مائة قتيل حسب المعلن حتى الآن).
وطأطأ بن علي لمطالب الجماهير على ألسنة وزرائه ووزيره الأول محمد الغنوشي، بل طأطأ رأسه بنفسه بعد أن أقال مسؤولين كبارا، من ضمنهم وزير الداخلية، كما طأطأ أكثر أمس عندما ناشد الشعب وقف العنف متعهدا بالإصلاح السياسي، ومطالبا بمنحه فرصة، متعهدا بعدم الترشح، وهو ما لم يهدئ المتظاهرين الذين حاصروا وزارة الداخلية التي كانت رمز سلطة اعتمدت على الشرطة، وهمشت القوى الأخرى بما فيها الجيش.
ومهما كان من غبش في مستقبل السلطة الحالي بعد إعلان سفر بن علي وتولي وزيره الأول زمام السلطة، وما إذا كانت الإجراءات المعلنة تعني انتهاء نظام بن علي أو سقوط رأسه فقط، فإن جميع المحللين والقادة السياسيين في تونس ينتهون إلى رأي واحد، هو أن رحيل بن علي يعني "انتهاء نموذج" حكم تونس بعيدا عن التنمية السياسية، تحت شعارات المعجزة الاقتصادية التي كشفتها شرارة سيدي بوزيد، فانفلت الشارع في وجهه وأنهى خياراته الحاسمة بين عشية وضحاها.
لم تكن التصريحات التي تتالت على الجزيرة من حمة الهمامي الناطق باسم الحزب الشيوعي التونسي المحظور، وحمادي الجبالي الناطق باسم حركة النهضة (الإسلامية) التونسية المحظورة، والتي تحمل نفس المضامين، إلا تعبيرا عن حالة إجماع ظهرت في الشارع، وجاء التعبير عنها على ألسنة السياسيين لتكون حقيقة اللحظة المجمع عليها.